كتاب "موريتانيا جذور وجسور" لمعالي الوزير والديبلوماسي الدكتور محمد المحجوب ولد بيّه إضاءة متميزة على تاريخنا البعيد والقريب، بفضاءه وأحداثه وبصماته الجلية على هذا الحيز الجغرافي المعروف بأسمائه المتغيرة عبر العصور والتي كان آخرها "موريتانيا" بعد معرفته بأسماء من قبيل: بلاد غانه، بلاد صنهاجة، صحراء الملثمين ، بلاد التكرور، بلاد الأنباط ، بلاد السودان، بلاد شنقيط و بلاد المغافرة.
لقد شكل الكتاب جهدا علميا اتسم بغزارة المادة والمراجع وجمال الاسلوب يسافر بالقارئ بعيدا، عبر التاريخ، ليكتشف جذور البلد والجسور بين مكوناته ومع محيطه الخارجي.
يمكن اعتبار الكتاب درسا تاريخيا وطنيا جامعا غاب عن المناهج التربوية التقليدية في بيئة تميزت بالكتابة عن الانساب والاسر والاعلام. جاء مؤلفه بمعطيات هامة عن أبرز الكيانات السياسية التي نشأت على هذه الارض من امبرطورية غانه في القرن الثالث بعد الميلاد إلى الغزو الاستعماري الفرنسي البغيض مطلع القرن العشرين الميلادي.
كانت غانه بعاصمتها كمبي صالح الموجودة في الحوض الشرقي -والتي اتخذها بلد في غرب افريقيا يبعد أكثر من 3000 كيلومتر من موريتانيا إسما له -أكبر منجم مفتوح للذهب في العالم ومن أبرز المراكز التجارية ما بين المحيط الأطلسي غربا ونهر النيجر شرقا.
أسسها شعب السونيكي العريق وكان من أبرز ملوكها، سلسة ضاربة في القرون من"التونكارا" المرصعون بالذهب والعظمة و "التنكامنين" الذين توج آخرهم سنة 1037م وقيل إنه لم يكن هناك فقراء في مملكة غانه التي هيمنت على مملكة آوداغوست الصنهاجية منذ 990م قبل ان تنقلب الموازين فترة من الزمن لصالح صنهاجة مع دعوة المرابطين ثم قرنين بعد ذلك، لصالح "الصوصو" بقيادة سوماهورو كانتي سنة 1203م و "الماندينك"بقيادة الامبراطور سونجاتا كيتا سنة 1240م.
الكتاب أتى بمعلومات شيقة -مستقاة من مصادر متخصصة- عن ملوك صنهاجة، مرجحا أن يكون أولهم "ترجوت ابن ورتاسن ابن منصور" مع ظهور الإسلام ، ثم توالى من بعده ملوك كان ابرزهم "تيلوتان ابن تلاكاكين" الذي حكم من 773م إلى 837م، "و كان يركب في مائة ألف نجيب" ، ثم "الاثير ابن تيلوتان" و "تميم ابن الاثير" آخر ملوكهم الذي قتل 918م في تمرد لشيوخ صنهاجة، تلته حقبة من الفوضى قدرها ابن أبي زرع بمائة و عشرين سنة، إلى أن سطع نجم بعض ملوك صنهاجة من جديد ك"يروتان ابن نزار" الذي ذكره ابن حوقل و البكري و ابن خلدون و كذلك الأمير "محمد ابن تيفاوت اللمتوني" الذي قتل سنة 1036م في موقع "كنكاره" الذي تسكنه قبائل من السودان غرب مدينة "باكالابين" بمنطقة تكانت.
و بموت "ابن تيفاوت" أحيلت الإمارة في إطار الإتحاد الصنهاجي إلى يحي ابن ابراهيم الكدالي .
و بدأت -يقول المؤلف- المرحلة التأسيسية الفعلية لدولة المرابطين برحلته لحج بيت الله الحرام صحبة العالم اللمتوني "الجوهر ابن سكم" ومروره في عودته بالقيروان (تونس) سنة 1038 م على الارجح ثم ببلاد السوس(المغرب) و اصطحابه للداعية "عبد الله ابن ياسين" الجزولي الصنهاجي الذي استقبل بحفاوة في البداية ثم ضاق الصنهاجيون به ذرعا و كادوا يطردوه لصرامته في تطبيق الاحكام حتى أنه -يضيف المؤلف-هم بالخروج عنهم إلى مملكة التكرور على ضفتي نهر السنغال لولا أن منعه يحي ابن عمر اللمتوني -خليفة يحي ابن ابراهيم الكدالي بعد موته- ليعتزلا سنة 1051م في رباط على ضفاف نهر السنغال او الاطلسي،صاحبهم فيه، أبي بكر ابن عمر اللمتوني.
وبدأ التوافد على الرباط المذكور بالدعوة والموعظة الحسنة ثم بالسيف. وتوحدت الصفوف وانطلق الجيش المرابطي لمحاربة الانحراف في بلاد الملثمين ثم لتحرير آوداغوست من سطوة غانة سنة 1053م وزحف الجيش بما يلازمه في تلك الفترات نحو الشمال تحت قيادة أبي بكر ابن عامر صحبة يوسف ابن تاشفين وسيطر على سجلماسة في بلاد السوس سنة 1055م بعد استنجاد علمائها بالمرابطين أمام صولة المغراويين.
وبعد موت امير المرابطين يحي ابن عمر سنة 1056م وكان معه حليفه أمير مملكة "منّا" التكرورية في قتال مع كدالة بآدرار الذي احتضن ب"آزوكي" عاصمة المرابطين في الجنوب ، أختار المرابطون ابي بكر ابن عمر اميرا لهم. وكان حينها ببلاد المغرب الذي غادره لإخماد الفتن في بلاد الملثمين ليعود إلى المغرب ويغادره للمرة الثانية سنة 1072م حيث استخلف عليه يوسف ابن تاشفين.
عاد إذا ابو بكر ابن عمر إلى الارض التي ولد بها و انطلق منها ليمكث فيها من جديد داعيا و مجاهدا في سبيل الله حتي استشهاده سنة 1087م في معركة مع "الصوصو" بعد ان اسس مراكش في الشمال و استولى على كمبي صالح سنة 1076م في الجنوب و نشر الاسلام في غرب افريقيا و اقام علاقات وطيدة مع المماليك الاسلامية السودانية خاصة التكرور التي جاهد ملوكها مع المرابطين شمالا و جنوبا و رسخ العقيدة السنية و المذهب المالكي و حارب في الشمال و الجنوب جيوب الوثنية و الاباظية و البرغواطية و البافورية و ضرب بإسمه، الدينار المرابطي ، في دولة المرابطين بالشمال.
ورجح المؤلف ان يكون قد حصل توزيع للمهام بأن يواصل يوسف ابن تاشفين قيادة المرابطين في الشمال ويتولى أبي بكر ابن عمر قيادتهم في الجنوب.
وعلى العموم انتهت الدولة المرابطية في الجنوب مع رحيل ابي بكر ابن عمر في أوج انتصارات الدولة المرابطية في الشمال بالسيطرة على المغرب وهزيمة ملك قشتاله "ألفونسو السادس" في معركة "الزلاقة" سنة 1086م أمام جيوش أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين الذي يقول ابن عذاري ان جيشه كان يضم مكونة من السودان هي التي حسمت المعركة.
واعاد ابن تاشفين بذلك، نصر طارق ابن زياد أمام الملك القوطي "رودوك"سنة 711م إلا أنه تميز بعبور جبل طارق من جديد سنة 1088م ليستولي على مالقة وغرناطة وأعاد الكرة مرة ثالثة سنة 1103م ليسيطر على بلاد الأندلس بأكملها.
اما في الجنوب فيتحدث المؤلف عن ظهور أربعة أمراء ذكرهم محمد امبارك اللمتوني شكلوا المحلات التي كانت اساسا لقيام كيانات من ضمنها "ابدوكل" و"الانباط" و "انيرزك" و "بيلكه" نخرتهم الخلافات و انشغلت عنهم الدولة المرابطية في الشمال لاسباب يصعب فهمها إلى أن سقطت هي الاخرى، على أيدي الموحدين سنة 1147م لتبدأ الهجرة المعاكسة لمرابطي الشمال نحو الجنوب و تأسيس بعض المدن التاريخية كوادان و تيشيت.
وسيتواصل حمل راية نشر الاسلام مع المماليك الاسلامية السودانية كمملكة التكرور التي تكوَّنت من مناطق تقع في جنوب موريتانيا ومالي ومناطق شمال السنغال واعتنق ملكها "ورجابي بن رابيس" الاسلام سنة 1040م ويرى المؤرخ "ديفيد ليفينغستون" أن إسلام مملكة التكرور سبق قيام دولة المرابطين.
وقد تحالفت مع المرابطين وأسهم ملوكها وسكانها في نشر الإسلام بدرجة كبيرة في المناطق التي حولهم، وكانوا أول من قاموا بمسيرات جماعية بقوافلهم من الغرب الأفريقي إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج.
وتواصل ايضا نشر الاسلام مع ملك الملوك "مانسا موسي" ملك امبراطورية مالي. يقول المؤلف ان ملكه امتد من مصب نهر السنغال غربا الى اواسط النيجر شرقا فشمل اجزاء من من السنغال ومالي وموريتانيا وغينيا ونيجيريا وبهر معاصريه بكثرة اتباعه، وغناه وكرمه وورعه.
وكانت رحلته المشهورة الى الحج سنة 1325م مثالا حيا على ذلك. ثم جاءت دولة "الصونغاي" سنة 1468م على أنقاض امبراطورية مالى تحت حكم الملك "سوني عالي بير" وعلى انقاضها قام حكم الأسكيا مع موسسها "اسكيا الحاج محمد الاول" صاحب عصرها الذهبي الذي حمل راية الدعوة الاسلامية في افريقيا وأسلم في عهده الكثير من امراء الوثنية والذي حج سنة 1497م وتصدق على فقراء الحرمين بمائة الف دينار ذهبا و اشترى بمثلها جنانا و بيوتا و حبسها على الفقراء و العلماء.
ورجوعا إلى الحيز الجغرافي لموريتانيا اليوم شكل قدوم المغافرة من جزيرة العرب مرورا بشمال افريقيا عبر قرون الى بلاد الملثمين في القرن الثالث عشر الميلادي منعطفا حاسما في التحولات التي لا تزال قائمة حيث توطنوا واختلطوا وتمازجوا مع مجموعات بلاد الملثمين التي كانت تفتقر إلى نظام سياسي قوي وجامع منذ رحيل ابي بكر بن عمر اللمتوني.
فكانت السيطرة للمغافرة ولو ان ذلك لم يحصل بالحروب وحدها، بل نتيجة لعدة عوامل ذكر منها المؤلف تشابه نمط الحياة البدوية بين صنهاجة والمغافرة وانتماء المجموعتين الى المذهب السني عقيدة والمذهب المالكي تشريعا وتجربة صنهاجة في التعامل مع الهجرات العربية السابقة. ساهم قدوم المغافرة في اكمال تعريب بلاد الملثمين وسادت اللغة الحسانية وتعززت مكانة المجتمع الجديد في بيئته الاقليمية وتطور العطاء العلمي والأدبي رغم الصراعات والحروب التي لم تأخذ يوما طابعا عرقيا.
وتشكلت إمارات جديدة خلال القرنين 17 و18 ميلادي: إمارات لبراكنه واترارزه وآدرار و أولاد امبارك و تكانت و مشظوف انصهرت فيها المجموعات التي شكلت مجتمع البيظان بخصائصه الراهنة.
كما شكلت إماميات "الفوتو تورو" نموذجا لقيام دولة إسلامية على أنقاض دولة "الدينيانكوبي" مع الشيخ سليمان بال في القرن 18 الميلادي امتدت على ضفتي نهر السنغال وتبنت الشورى و الشعائر ورفض المغارم و الجهاد. و خلف الشيخ سليمان بال، الامام عبدالقادر كان الذي وطد الامامة و انتصر في معاركه شمالا و جنوبا. ويقول المؤلف أن الإمامة توالت من بعده لثلاثة وخمسين إماما ما بين 1776 و1891م.
وسيشهد هذا المجتمع الجديد بكل أطيافه مرحلة خاصة تمثلت في الأطماع الأوروبية على شواطئه تمهيدا لغزو البلاد وإستعمار ساكنته والإستحواذ على موارده فبرز التصدي للاطماع الاستعمارية وللغزو الفرنسي من كل الكيانات السياسية التي ضحت وجاهدت على مدى قرن من الزمن الى أن تغلبت القوة الغاشمة على آليات الجهاد المحلى ليتواصل بأساليب اخرى كانت من أسباب ميلاد الكيان السياسي الجديد والجامع: الجمهورية الاسلامية الموريتانية.
في نهاية هذا السرد عن كتاب "موريتانيا جذور وجسور" لا يسعني إلا أن اشكر مؤلفه الدكتور محمد المحجوب ولد بيّه على مجهوداته الجسام لإنجاز هذا التأليف المتميز الذي يشكل بالفعل القصة الوطنية المفقودة ويجسد رؤية المؤلف لتاريخ من أجل المستقبل.
فجزاه الله عنا بكل خير.
إسلمو ولد صاليحي
21:40 - 2024/03/04
21:40 - 2024/03/04