تتواصل الحرب المدمرة على غزة وتتعدد آثارها الرهيبة على الاقتصاد وعلى المجتمع.
وبدأت التقارير الدولية تشير الى حجم الخسائر الاقتصادية التي تجاوزت في حدتها ما حصل في كل الحروب السابقة على قطاع غزة وفضائع الحرب في اوكرانيا. وتشير الدراسات الهامة التي قامت بها المؤسسات الاممية الى نتيجتين هامتين: النتيجة الاولى تشير الى ان التدهور غير المسبوق في الوضع الاقتصادي والاجتماعي ليس وليد بداية الحرب في 7 اكتوبر بل يعود بادئ ذي بدء الى سنوات الحصار الطويل الذي فرضته اسرائيل على القطاع أما النتيجة الثانية فتؤكد حجم الخسائر التي تعرضت إليها غزة منذ انطلاق الحرب الاخيرة، اذ بالإضافة الى الصور القادمة من غزة تمكنت مختلف هذه الدراسات من اعطاء فكرة اكثر دقة وترقيما لهذه الخسائر. أما النتيجة الثالثة والهامة والتي نود التأكيد عليها في هذا المقال فتهم التغييرات الهيكلية التي احدثتها الحرب فقد تحول الاقتصاد رغم الازمات التي كان يعيشها جراء الاعتداءات المتواصلة- من اقتصاد منظم ومهيكل الى اقتصاد حرب .وقد اهتمت مراكز البحث والخبراء في السنوات الاخيرة باقتصاد الحرب مع تصاعد الصراعات المسلحة لفهم الحرب مع مقارنة بالاقتصاد العادي والمنظم. وقد اثبتت هذه الدراسات والبحوث ان لاقتصاد الحرب خصائص تجعل من عملية اعادة البناء عملية صعبة ومعقدة.وفي رأيي تحول اقتصاد غزة تحت الضربات المدمرة الى اقتصاد حرب سيتطلب جهودا كبيرة لإعادة بنائه وإحياء ديناميكيته.
• الاقتصاد تحت الحصار
يشير تقرير المنظمة الاممية للتجارة والتنمية ان الحصار على غزة والقيود التي وضعها الاحتلال على حركة المواطنين والسلع ومختلف التضييقات كانت له انعكاسات سلبية كبيرة على قطاع غزة .وقد ازدادت حدة هذا الحصار بعد 2007. فقد منعت اسرائيل بناء مطار كما منعت توسيع الموانئ لتحد من الحركة الاقتصادية والتجارية للقطاع .
وقد اشار التقرير الى ان الحروب والاعتداءات المتواصلة لقوات الاحتلال في سنوات 2008 و2012 و2014 و2022 و20223 زادت من حدة التدمير الذي طال القطاع وشمل تدمير البنية التحتية والمساكن والمؤسسات الانتاجية في مختلف القطاعات من صناعة وفلاحة وخدمات .وقد نتج عن هذا التدمير الممنهج لاقتصاد القطاع تراجع رهيب في قدرته الانتاجية وجميع مؤشرات النمو .فقد كان انتاج القطاع يمثل %31 من الناتج الفلسطيني والضفة والقطاع ) سنة 2006 ليتدحرج بصفة رهيبة الى %17 سنة 2022 الى %14 سنة 2023.
اما الدخل الفردي فقد عرف هو الاخر تراجعا كبيرا ليمر من 1994 دولار الى 1257 ثم الى 929 دولار في نفس الفترة .اما نسبة البطالة فقد ارتفعت بنسبة مخيفة من %3 سنة 2006 الى %45 سنة 2022 ثم الى %79 سنة 2023.وقد نتج عن هذا التدهور الاقتصادي وارتفاع البطالة تطور كبير لنسبة الفقر التي صعدت من %39 سنة 2006 الى %65 سنة 2022 لتقفز الى %96 من مجموع السكان.
تشير هذه الارقام والإحصائيات الى التدهور الكبير والمفزع للوضع الاقتصادي والاجتماعي في القطاع. ولم يقف هذا التدمير وانعكاسات الحصار على المجال الاقتصادي والاجتماعي بل امتد الى البنية التحتية والصحية والتعليمية والوحدات السكنية .وقد وفرت هذه الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعاشية الظروف الموضوعية للانفجار والمواجهة.
• الاقتصاد تحت الحرب
لئن كان من غير الممكن تقديم تقديرات دقيقة حول انعكاسات الحرب على القطاع الا ان التقارير التي اعدتها بعض المؤسسات الاولية قدمت بعض الارقام الاولية حول حجم الخسائر جراء هذه الحرب المدمرة .وقد قال تقرير منظمة «الاسكوا» وبرنامج الامم المتحدة للإنماء والصادر منذ ايام: «افضت حرب غزة الى خسائر فادحة في الارواح وأضرارا جسيمة في البنى التحتية.وستؤدي هذه الخسائر الى تداعيات اجتماعية واقتصادية قصيرة وطويلة الاجل والى حرمان طويل المدى وتدهور في التنمية البشرية ستعاني منه الارض الفلسطينية بأسرها».
وأولى هذه الخسائر تتعلق بالجانب البشري حيث تجاوزت الخسائر البشرية المبلغ عنها 30 الف قتيل نتيجة القصف الاسرائيلي والعمليات العسكرية وفي هذه الارقام المفزعة للأشخاص الذي لقوا حتفهم عددا كبيرا من الاطفال والنساء.
وكانت الحرب وراء نزوح عدد كبير من السكان من منازلهم للبحث عن اماكن اكثر امنا . وقد تجاوز عدد النازحين داخليا في قطاع غزة منذ بدء الحرب 1.5 مليون شخص وسط ظروف انسانية خطيرة مع غياب الغذاء والماء والأدوية .
وكانت الحرب والعمليات العسكرية وراء تراجع الامدادات الانسانية من خلال معبر رفح والتي لم تتجاوز %3 من جملة ما كان يدخل الى غزة قبل الحرب .كما ادت الحرب والعمليات العسكرية الى تدهور الوضع الصحي حيث خرج اكثر من ثلث المستشفيات وأكثر من ثلثي مراكز الرعاية الصحية عن الخدمة بسبب ما لحقها من اضرار او نقص الادوية والمعدات الطبية والوقود .كما كانت للحرب انعكاسات خطيرة على المباني والبنى التحتية حيث تشير التقارير الى ان اكثر من %45 من المساكن في غزة قد تم تدميرها او تضررت بسب القصف.كما عرفت المرافق التعليمية الكثير من الاضرار التي مست اكثر من %40 منها. كما اشارت التقارير التي استخدمت الاقمار الصناعية الى انهيار %90 من الاضاءة في بعض مناطق غزة والى الانقطاع اليومي للتيار وانخفاضه بدرجة كبيرة في اغلب مدن القطاع .
اما التداعيات الاقتصادية فستكون وخيمة على القطاع حيث تشير التقديرات الاولية الى ان تراجع الناتج المحلي للقطاع يمكن ان يتراوح بين %4 و%12 سنة 2023 وبين %4 و%9 سنة 2024 مقارنة بتقديرات ما قبل الحرب .كما تشير الدراسة الى فقدان اكثر من 400000 فرصة عمل . كما كانت للحرب انعكاسات اجتماعية كبيرة حيث يمكن لمعدل الفقر ان يرتفع بين %20 و%45 حسب مدة الحرب كما ان التدهور والانحدار سيهم دليل التنمية البشرية حيث ستتراجع فلسطين بين 11 و16 عاما الى الوراء .
تؤكد هذه الدراسات والأرقام الاولية التي قدمتها الى حجم الخسائر التي سببتها الحرب والعمليات العسكرية على غزة. الوقوف على مسألة مهمة الى جانب الارقام التي اشرنا اليها والتي تهم الانعكاسات الهيكلية للحرب على غزة .فقد سرعت العمليات العسكرية من دخول القطاع الى ما نسميه اقتصاد الحرب مما سيطرح تحديات كبيرة على المديين المتوسط والطويل لان التعافي الاقتصادي وعودة النمو لن يتحقق بمجرد ايقاف اطلاق النار.
• المرور إلى اقتصاد الحرب
الى جانب هذه الآثار المباشرة للعدوان كانت لهذه الاعتداءات والعمليات العسكرية تأثيرات هيكلية حيث ساهمت في التحول التدريجي لغزة الى اقتصاد الحرب، ولهذه التركيبة الاقتصادية خصوصيات ستجعل الخروج منها عملية معقدة تتطلب الكثير من الوقت.
وأولى خصائص اقتصاد الحرب هي المرور من اقتصاد منظم ومهيكل ترتكز ديناميكيته على قواعد واضحة الى اقتصاد غير رسمي تغيب فيه القواعد وتسيطر عليه التجارة غير المشروعة والتي لا تحتكم الى قوانين واضحة .وقد عرفت القطاعات الاقتصادية تراجعا كبيرا في زمن الحرب في قطاع غزة. فقد كان لنزوح عدد كبير من سكان القرى وعليات القصف تأثير كبير على القطاع الزراعي وعلى توفير المواد الغذائية.
كما شهدت المؤسسات الصناعية تدميرا كبيرا جراء القصف مما نتج عنه تراجع مخيف للقطاع الصناعي.كما ستساهم هجرة الكثير من رؤوس الاعمال الى الخارج واستقرارهم في البلدان المجاورة في تراجع دور القطاع الخاص ومساهمته في اعادة بناء القطاع .
كما سيلعب تراجع القطاع المنظم دورا مهما في ازمة مؤسسات الدولة ومدى قدرتها على السيطرة على المجتمع وتوفير الحاجيات الاساسية للسكان. ويمكن ان نضيف الى هذه الخاصية الاولى خاصية ثانية اذ مع تدمير كل المؤسسات الانتاجية سيزداد دور المعونات الانسانية ومؤسسات الاغاثة الدولية والتي ستصبح تدريجيا المصدر الاساسي لتلبية حاجيات المواطنين وستساهم هذه التحولات والتغييرات الاقتصادية الهيكلية في تطور التركيبة الاجتماعية وتنامي التجارة الموازية والتهريب .
الى جانب الانعكاسات المباشرة للحرب فقد ساهمت في دخول قطاع غزة في اقتصاد الحرب الذي سيشوه تنظيمه وديناميكيته الاقتصادية لعقود.وستكون عملية اعادة البناء اثر نهاية الحرب شائكة ومعقدة وطويلة المدى .