نعم رحل الإعلام في هذا البلد عندما رحل ولد عمير، لكن ولد عمير بقي.. بقي بذكراه الخالدة، وتاريخه المشرق الذي صنعه بموهبته وتفانيه وإخلاصه لنفسه ولوطنه، ولو كان بلدنا من البلدان التي تحتفي بمكتسباتها الوطنية وتقدرها حق قدرها لاحتفت بولد عمير.. ولد عمير الذي يعود له -مع ثلة قليلة من الرفاق- فضل وشرف تأسيس الإعلام الحر وتعبيد الطريق له في هذا البلد، وفضل وشرف توجيه الديمقراطية الناشئة فيه وصيانتها.. كان ولد عمير مدرسة بكاملها خرجت أجيالا كثيرة من الإعلاميين وأطرتهم وصقلت مواهبهم، وأنا منهم...
تاريخي مع ولد عمير طويل وعريض يمتد إلى ثلث قرن كان لي فيه الأخ والصديق والزميل والأستاذ، وكل شيء تقريبا.. في الأشهر الأولى من سنة 1992 التحقت بجريدة البيان التي كانت تضم حينها نخبة الصحافة الوطنية الحرة -الصحافة النظيفة التي لم تكن تؤمن بأي شيء غير الوطن وخدمته.. تلقفني زملائي بسرعة واحتضنوني جميعهم رغم أني كنت أصغر من هناك سنا وأقلهم تجربة.. لم يقبلوا بأن أكون مجرد صحفي في جريدة، بل اعتبروني أحد حملة مشروعهم.. اعتبرني ولد عمير وحبيب ولد محفوظ والآخرون أخاهم الأصغر وأخذوا بيدي تأطيرا وتوجيها وإشرافا، وكان ولد عمير يتابع عطائي في الطبعة العربية رغم أنه هو كان في الطبعة الفرنسية .. ثم سرعان ما أسندت إليه في مرحلة من المراحل رئاسة تحرير الطبعة العربية أيضا، فتوطدت الصلة الوطيدة أصلا، وكان يكتب لنا الافتتاحيات بعربية أنيقة لا تخال من صقلت لغة موليير ثقافته قادرا على الكتابة بها... ومن هنا تعلمت كيف تكتب الافتتاحيات.. كما تعلمت الكثير من أصول الصحافة وطرقها.. وكنت كلما كتبت مقالا ذا أهمية يقوم ولد عمير أو حبيب ولد محفوظ بترجمته إلى الفرنسية، فحملاني إلى عالم من المثقفين والديبلوماسيين الغربيين لم أكن أعرفه ولم يكن يعرفني.. أذكر أن ولد عمير ترجم لي مقالا ثقافيا عن المدح عند الحراطين ترجمة فائقة بفرنسيته العذبة حملت عنوان Le Gospel des Haratins لم ألبث أن دعيت بعده إلى فرنسا لإلقاء محاضرة ثقافية تولى ولد عمير ترجمتها إلى الفرنسية ولاقت نجاحا كبيرا في فرنسا..
ودار الزمن وصودرت البيان وتعثرت فأطلق حبيب إلى جانب ولد عمير (كنا نراهما رجلا واحدا في شخصين) وباقي الرفاق جريدة القلم التي توليت رئاسة تحرير طبعتها العربية، وامتدت العشرة وازدادت الأواصر حتى حرمت القلم التي كانت الجريدة الأكثر مصادرة في التاريخ، وتوقفت لبعض الوقت، وهنا أطلق ولد عمير جريدته الخاصة به لاتريبين، وأسند إلي رئاسة تحرير طبعتها العربية، فانضافت سنوات أخرى من الأخوة والصداقة إلى السنوات التي مضت.. في هذه الحقبة شاركني ولد عمير كل شيء تحت يديه الخبرة والعلاقات والمال والسيارة، فاكتشفت كم كان إعلاميا كبيرا، ومثقفا من الطراز الرفيع، ورجل علاقات ممتاز، وفوق كل ذلك أخا حنونا سمحا كريما راسخ الإيمان صادق الود..
ودار الزمن دورة أخرى مررت فيها بتجربة إعلامية رائدة هي الأخرى من خلال جريدة العلم مع زملائي محمد محمود ولد بكار ومحمد فال ولد سيدي ميله ومحمد الأمين ولد محمودي، وجميعهم مثلي خريجو مدرسة حبيب ولد محفوظ وولد عمير إبان فترة القلم..،ثم بدا لي أن أسس مشروعي الإعلامي الخاص بي فكانت جريدة الأمل الجديد التي اتخذت لها أولا مقرا قرب بالاس قبل أن ألتحق بولد عمير مجددا في البناية التي كانت فيها جريدته، وحانت مرحلة جديدة من التعلم على ولد عمير.. تعلم المسؤولية وبناء العلاقات، وتعلم الإدارة والتسيير، تعلم كيفية الجميع بين قيادة المؤسسة وممارسة المهنة.. صنع لي ولد عمير علاقات كثيرة، وعرفني بأشخاص مهمين عديدين، وأخذ بيدي في مناسبات متعددة، وكان مكتبه آنذاك محجة لكبار المسؤولين والمثقفين وكنت أحد جلسائه اليوميين، فكان ذلك بالنسبة لي مدرسة أخرى...
وعندما عين ولد عمير مديرا للوكالة الموريتانية للأنباء استدعاني إليه، وكان التشاور وتبادل الأفكار والآراء عنوان علاقتنا في هذه المرحلة حتى أحيل إلى التقاعد الوظيفي، فهو كأي صاحب فكر وطني لا يتقاعد أبدا، فلذلك واصل عطاءه وإنتاجه وكتاباته، حتى رحيله عنا يوم أمس مع الأسف قبل أن نوفيه حقه من التكريم الذي يستحقه علينا كأجيال من الإعلاميين كان ولد عمير أستاذا وقدوة لهم، كما يستحقه على البلد الذي ناضل من أجل حريته وكرامته وتقدمه.. لينم هانئا في قبره فقد ترك لنفسه أثرا خالدا في وطنه.. ولنأس نحن على أنفسنا وعلى الإعلام من بعده.. فقد رحل الإعلام وبقي ولد عمير...