الشبح المجهول الذي تبحث عنه أجهزة الأمن الإسرائيلي ليلا ونهارا، وأقدم المطلوبين لدولة الاحتلال على مدار أكثر من ربع قرن، إنه محمد الضيف القائد العام لكتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس في فلسطين.
محمد الضيف الملقب بـ "أبو خالد" لا أحد يعرفه على وجه اليقين غير صفوة محدودة من قادة حماس، ولا تعرفه دولة الاحتلال إلا بتلك الصورة المعتمة والصوت الواثق، رغم سعيها وراءه منذ عقود، الرجل الذي أطلق "طوفان الأقصى" ووضع الاحتلال أمام لعنة التاريخ، في مفاجأة هزت قادة الاحتلال وربما قادة آخرون في المنطقة.
القائد العسكري الأخطر على دولة الاحتلال لم يظهر سوى ثلاث مرات على مدار عقدين، من خلال صوت هادئ وصورة معتمة تعود إلى ولادته إلى عام 1965 باسم محمد دياب إبراهيم المصري واشتهر باسم "محمد الضيف" وكنيته أبو خالد.
وأصبح "أبو خالد" قائدا عاما لكتائب عزالدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) منذ عام 2002، وفاجأ جيش الاحتلال بعد خمسة حروب بإعلان حربه الكبرى من أجل الأقصى في حدث تاريخي سيؤثر في فلسطينيو المنطقة لسنوات عديدة، عندما أعلن بصوت قوي وصلب صباح يوم 7 أكتوبر انطلاق معركة "طوفان الأقصى" برا وبحرا وجوا وإطلاق نحو 5 آلاف صاروخ طالت المدن الفلسطينية المحتلة وعاصمة الكيان "تل أبيب"، تلاها اقتحام المقاومة مستوطنات وكيبوتسات وثكنات إسرائيلية وقتل وأسر أعداد كبيرة من الجنود والضباط في عملية غير مسبوقة بحجمها وتأثيراتها ونتائجها.
شبح غير متوقع
الصدمة التي تلقتها دولة الاحتلال ودوائر صنع القرار في تل أبيب، تمثلت أن الهجوم جاء بعد خمسة عقود من نصر أكتوبر 1973، ليكرس الهزائم الإسرائيلية عندما اقتحمت القوات المصرية والسورية الأراضي المحتلة شمال وجنوب فلسطين.
الرجل الشبح ينتمي إلى أسرة فلسطينية مهجّرة من بلدة القبيبة، ونشأ في مخيم خان يونس ولا تملك له المؤسسات الأمنية في تل أبيب أي صورة واضحة منذ عدة عقود رغم أنه كان سجينا لديها عام 1989 لمدة 16 شهرا دون محاكمة، وكانت القوات الإسرائيلية قصفت منزل والد محمد ضيف، في قيزان النجار بخان يونس وقتلت 4 من أفراد أسرته. كما استشهد أخيه عبد الفتاح الضيف (60 عاماً) وابنه مدحت عبد الفتاح الضيف (40 عاماً)، وحفيده براء (عامان ونصف العام)، وزوجة أحد أبنائه الآخرين.
الصور المتاحة لأخطر رجل في تاريخ فلسطين الحديث هي ثلاث صور، إحداها لظله، والثانية مأخوذة من ملفاته القديمة حين كان شابا، وصورة أخرى له وهو ملثّم، مما يجعل كثير من أجهزة الأمن في حيرة كبيرة حيال القائد الشبح، يحب أن يلقّبه الفلسطينيون بوزير الدفاع، أما في تل أبيب فيعتبرونه رأس الأفعى.
محاولات النيل من "أبو خالد" تزيد عن خمس مرات وتفيد أنباء غير مؤكدة أنه أصيب عام 2003 أدت إلى شلله، ليستعيد إلى الأذهان مؤسس وقائد حماس الشهيد الشيخ أحمد ياسين الذي قاد أكبر حركة مقاومة فلسطينية خلال نصف قرن وهو على كرسي متحرك، إلا أن الضيف يتمتع بقدرة غير عادية على التخفي والابتعاد عن الأنظار، كما أنه يحيط نفسه بغموض شديد، الأمر الذي ساعده على النجاة من المحاولات الإسرائيلية المُستميته لاغتياله.
المسرح والمقاومة
العامل الأهم في اختفائه قدرة "الضيف" على التخفي وعدم استعماله الهواتف الحديثة أو الأجهزة القابلة للتتبع، وضبط تحركاته بسرية كبيرة وعدم الظهور في الأماكن أو المناسبات العامة، إذ غاب عن جنازة والدته عام 2011 أو حضر بطريقة متخفّية لإلقاء نظرة الوداع على أمه.
القائد العسكري والأمني الأشهر خلال أكثر من 20 عاما، دفعه الفقر وظروف أسرته لترك مقاعد التعليم مؤقتا والعمل في مجالات عدة، ثم الانتساب إلى الجامعة الإسلامية التي شكّلت بداية عمله الطلابي والسياسي في صفوف الحركة الإسلامية التي التحق بصفوها عام 1987، كما كان في حياته الجامعية مولعا بالمسرح وأسّس فرقة "العائدون"، ولعب أدوارا مسرحية ضمنها، وفي منتصف عام 1988 حصل على درجة البكالوريوس في العلوم.
عرف بين الجميع بالهدوء والأخلاق العالية، فضلا عن روح الدعابة، وفي عام 1989 اعتقلته إسرائيل لمدة سنة ونصف بتهمة النشاط العسكري مع حركة حماس، وكانت تجربة السجن بداية عمله العسكري الفعلي في صلب كتائب الشهيد عز الدين القسام التي طفت على سطح الساحة الوطنية الفلسطينية.
يقول صديقه في السجن وزميله في حركة حماس والقيادي الحالي فيها غازي حمد، في حديث لصحيفة فايننشال تايمز بأنه "كان لطيفا للغاية ويرسم رسوما كاريكاتورية صغيرة لإضحاكنا (...) مع تركيز شديد على المسار العسكري".
ويقول من عرفه خلال سنوات شبابه، إنه رجل حاد الذكاء، ويتمتع بحضور قوي وحس أمني عال وقدرة كبيرة على التخفي إذا أراد، مع قدرات مميزة على التخطيط وتقديم الحلول.
وريث الشهداء
وبرز الضيف كقيادي إثر اغتيال الشهيد عماد عقل عام 1993 عندما أشرف على تنفيذ عمليات عدة، من بينها أسر الجندي الإسرائيلي نخشونفاكسمان عام 1994، وبعد اغتيال يحيى عياش في يناير 1996 خطط الضيف لسلسلة عمليات فدائية أخرى أوقعت عشرات القتلى والجرحى في صفوف الإسرائيليين.
وتأثّر الضيف بقادة مثل يحيى عياش وعدنان الغول، اللذين كانا من كبار الاستراتيجيين العسكريين في حماس قبل اغتيالهما على يد إسرائيل، أصبح الضيف جزءاً من كتائب القسام وتعلّم مهارة صناعة القنابل على يد يحيى عياش، صانع القنابل الشهير المعروف باسم "المهندس"، ويعود له الفضل في تأسيس شبكة متطورة من الأنفاق تحت قطاع غزة وتصميم صاروخ القسام.
ورأس الضيف مطلوب لإسرائيل منذ منتصف التسعينات، حتى شمعون بيريس الذي كان رئيساً للوزراء عام 1996، طلب من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات اعتقاله، قبل أن يبدي عرفات استغرابه من الاسم، وكأنه لا يعرفه، ليعترف بيريس لاحقاً بأنه اكتشف أن عرفات كان يحميه ويخفيه ويكذب بشأنه.
مطلوب في تل أبيب وواشنطن
محمد الضيف يصنّف ضمن لوائح الإرهاب الأميركية عام 2015، وتعرّض لأول محاولة اغتيال في 2001 لكنه نجا، وجرت محاولة ثانية لاغتياله عام 2002 عندما أطلقت مروحية "أباتشي" إسرائيلية صاروخين نحو سيارته أصيب إثرها بجروح، فتولى علاجه الشهيد الراحل عبد العزيز الرنتيسي الذي اغتيل بدوره عام 2004، وتكرر الأمر عام 2006 حين أصاب صاروخ إسرائيلي منزلا كان الضيف يجتمع فيه مع قادة من كتائب القسام، وقالت إسرائيل إنه أصيب بجروح بالغة جعلته مقعدا، في معلومات غير مؤكدة، وفي عام 2014 استشهدت زوجته وابنه الرضيع في غارة كانت تستهدفه في حي الشيخ رضوان بغزة.
إطلاق الطوفان
وتعد عملية "طوفان الأقصى" المعركة الخامسة التي يحضرها "الضيف"، وقامت هذه المرة على عنصر المبادأة، فكانت مفاجأة إستراتيجية وتكتيكية كاملة لإسرائيل لا تشبه غيرها سابقا ومستقبلا.
وكانت المرة قبل الأخيرة التي سُمع فيها صوته في عام 2021، عندما حذّر إسرائيل من أنها ستدفع "ثمناً باهظاً" إذا لم تستجب لمطالب حماس بشأن القدس، ليعود يوم السبت ويعلن بدء العملية العسكرية قائلاً: "هذا هو يوم المعركة الكبرى لإنهاء آخر احتلال على وجه الأرض"، داعياً الفلسطينيين في كل مكان إلى القتال.
وحذّر الضيف في تلك الفترة، قائلا "إن لم يتوقف العدوان على أهالي حي الشيخ جراح في القدس المحتلة في الحال، فإن كتائب القسام لن تقف مكتوفة الأيدي وسيدفع الاحتلال الثمن غاليا".
وبعدها بعامين خلال إطلاق عملية طوفان الأقصى، قال الضيف إن قيادة القسام "قررت وضع حد لكل جرائم الاحتلال، وانتهى الوقت الذي يعربد فيه دون محاسب"، وفق تعبيره، داعيا كل الجبهات للانخراط في المعركة بقوله: "أدعو إخوتنا في المقاومة بلبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا للالتحام مع المقاومة بفلسطين".
أخيرا تعود تسميته إلى "الضيف"، وذلك بسبب تنقّله خلال 25 عاما في أكثر من بيت عندما يحل ضيفا على رفاقه في المقاومة خلال مسيرته الجهادية، فأصبحت كل بيوت الفلسطينيين محل الثقة بيتا لأبو خالد الذي يرحّب به كل بيت فلسطيني في كفاح شعب نحو الاستقلال والحرية وطريق "أبو خالد الضيف" نحو النصر أو الشهادة.
الخبر الجزائرية