تحاول فرنسا صمّ آذانها عن الحقيقة المرّة المتجسدة في تواصل سقوط أحجار الدومينو العائدة لمشروعها الاستعماري القديم المتجدّد في معظم أرجاء القارة الإفريقية، على الرغم من أنها كانت تسير ضمن مسار ناجح في استغلال شعوب القارة ونهب خيراتهم عبر إيهام دولهم بالصداقة والتحالف والحماية واعتماد أدوات ثقافية وإعلامية وإذاعية محكمة، ومدعومة عسكرياً واستخبارياً واقتصادياً لإحكام قبضة السيطرة على تلك الشعوب التي باتت تصحو بقوة من سباتها بعد عقود من فشل حصول التنمية على أرضها، وبعد تبنيها لنجاح الأنموذج الراوندي الذي حقق الاستقرار بعد طرد بقايا المستعمر الفرنسي من أرض بلاده.
ومع أن أصوات التهديات من محور فرنسا ومؤيديه “أمريكا – بريطانيا – إيكواس” بالتدخّل العسكري في النيجر كانت مرتفعة، لإعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم، إلا أننا نلحظ مدى الهدوء والثقة والشجاعة المتوفرة على المقلب الآخر لدى ضباط المجلس، وسيرهم بكل تحدٍ بين الجموع الشعبية في الشوارع الرافضة للوجود الفرنسي، والمطالبة بخروجه، رغم عدم وجود تدخّل عسكري من روسيا كما يتم الترويج، حتى قوات شركة “فاغنر” لا يوجد لها جندي واحد على أرض النيجر حتى اللحظة، بمشهد يعكس إضفاء الشرعية الشعبية على “الإنقلاب” من قبل الشعب والجيش.
إن جميع تلك القوى الملوحة بالتدخّل العسكري في النيجر لم تبدِ على أرض الواقع سوى التخبّط؛ فـ”إيكواس” ورغم تهديدها بحشد عشرات الألوف من القوات للتدخّل، وإعطائها مهلة للمجلس العسكري لإعادة الحكم الدستوري، لم تحرّك ساكناً حتى بعد انتهاء المهلة، والأسباب كثيرة؛ فالمنظمة أدركت أن أي تحرّك عسكري سيطيح بمصداقيتها في الحفاظ على استقرار بلدان المنظمة، كما أدركت أن التدخّل لن يجلب سوى الويلات دون نتائج على الأرض وحتى لو تمت إعادة الرئيس المخلوع إلى الحكم فلن يتمكن من مجابهة تلاحم الجيش مع الشعب ضدّه، ناهيك عن الإنقسام ضمن المنظمة والمتجسّد برفض دول، بوركينا فاسو وغينيا كوناكري وتشاد ومالي، التدخّل مع تعهدهم بالصدّي له إن حصل.
أما نيجيريا التي يرأس رئيس الدولة فيها بالوقت نفسه منظمة إيكواس، وعلى الرغم من تعهده بتأمين نصف قوات التدخّل من جيش بلاده، فهي بكل تأكيد ستقف عاجزة عن الإقدام على تلك الخطوة لموانع عديدة؛ يأتي في مقدمها أن الشعب في دولتي النيجر ونيجيريا واحد ديموغرافياً وثقافياً ولغوياً، وأي صراع سيكون صراع أشقاء وسيسبب شرخاً وانقساماً لا تُحمد عقباه، من جهةٍ ثانية رفض مجلس الشيوخ النيجيري منح الأذن بتدخّل قوات بلاده ضدّ النيجر، وبالتالي فإن أي قرار من الرئيس لتحريك الجيش سيكون غير قانوني.
غربياً، رفضت إيطاليا التدخّل، لتتبعها أمريكا التي ادّعت أنها قادرة على حلّ الخلاف دبلوماسياً، مستبعدةً طرح الخيار العسكري كحلٍ للأزمة، وخاصةً بعدما لمسته عبر زيارة وفدها من مدى صلابة ووحدة الموقف النيجري المؤيد لخطوات المجلس العسكري.
وحتى على المقلب الفرنسي، بدأ مجلس النواب جهوده لحرف الرئيس إيمانويل ماكرون عن عقليته الرامية إلى انتهاج علاقات سيئة في إفريقيا باتت تهدد بالإطاحة بأي وجود لها ضمن القارة على جميع الصعد، وخاصةً بعد فضيحة فشل عملية “برخان” في منطقة الساحل الإفريقي.
إن المنطق السياسي السليم يؤكد أنه لا خيار أمام فرنسا سوى الغياب عن المشهد الإفريقي الغاضب، والراغب في محوها من القارة؛ لأنها بكل بساطة لم تقتدِ بالنهج الروسي أو الصيني الذي بدأ يغير واقع القارة السمراء نحو العلاقات المتكافئة والمتساوية، مع إحلال التنمية والأمان والاستقلال والاستقرار، ملهماً بتحقيق المرحلة الثانية من استقلال بلدان إفريقيا من الشكل الاستعماري الجديد.
بشار محي الدين المحمد